«قيثارة السماء»

محمد رفعت.. يوم احتبس صوت «قيثارة السماء».. فبكي أهل الأرض في مصر

هنا.. في هذا المسجد، حفظ القرآن، وهنا انطلق صوته الجميل الرخيم العميق، صاحب الرهبة والغموض، وهنا احتبس الصوت، واحتبست معه دموع محبيه وعاشقيه ومن خشعوا وارتفعوا بقلوبهم وأرواحهم علي «حس» صوته..هنا، في مسجد فاضل بدرب الجماميز، وخلال إحدي صلوات الجمعة في بداية عقد الأربعينيات، رفع شيخ صغير السن صوته «يا سامعي القرآن الكريم أنصتوا ثم أنصتوا، تفوزوا إن شاء الله بالثواب».
اعتدل الشيخ الصغير في جلسته وتنحنح وكأنه يهيئ القلوب للوجه والطرب، فأصغوا وأرهفوا السمع لأعظم صوت أنشد القرآن وتلاه، انطلقت الآيات من حنجرته علي ١٨ مقاماً موسيقياً، ومن يومها ملأ الصوت الدنيا وشغل الناس، وحمل أختام التلاوة في رمضان حتي بات جزءاً منه صوت الشيخ محمد رفعت، ذاك الذي يرسم أمام سامعيه بتنغيماته، مساجد ومآذن وقصوراً في الجنة، كان يقرأ ويتدبر الآيات، فإذا كانت واحدة تبشر بالجنة كان الصوت مستبشراً بهيجاً، وإذا مر بآيات النقمة والتوعد، كان الصوت جزعاً مرتعشاً، كأنما كان الصوت يسير وجلاً فوق الصراط خشية السقوط.
من يسمعه يستحضر حديث الرسول صلي الله عليه وسلم في وصفه صوت سالم مولي أبي حذيفة إذ قال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا»، وقول عمر بن الخطاب وهو يستمع إلي أبي موسي الأشعري: «من استطاع أن يتغني بالقرآن غناء أبي موسي فليفعل».
وفي أخريات حياته في منتصف الأربعينيات، أصابته جلسة في صوته أثرت عليه، وفي إحدي الجمعات كعادته وفي مسجد فاضل وفيما كان يقرأ سورة الكهف غُص صوته واحتبس فسكت قليلاً ثم عاد يتلو تلاوة متقطعة حتي احتبس صوته تماماً، هنا حني الشيخ العظيم رأسه، لا يدري ماذا يصنع ثم أخرج من جيبه زجاجة دواء فيها سائل أحمر، واحتسي قليلاً منه وانتظر برهة وعاد يرتل فأطاعه صوته قليلاً، وما لبث أن توقف تماماً فغادر مجلسه ليحتله شيخ آخر.
كانت لحظة قاسية عنيفة اهتزت لها مشاعر وأعصاب الحاضرين في المسجد، فضجوا بالبكاء، ولطم بعضهم الخدود حزناً وأسفاً، وارتفع صراخ «المقرئين» الشباب الذين كانوا يلتفون حول الشيخ العظيم كل جمعة، وخرج الناس بعد الصلاة، وعيونهم تفيض بالدموع وقلوبهم تحف الشيخ العظيم لا يدرون أيواسونه أم يواسون أنفسهم، لقد عطل المرض تلك الأوتار السماوية لذلك الصوت الذي وصفه ذات يوم محمود السعدني بأنه «صوت الشعب» الذي استمد طبيعته من جذور الأرض، وهو صوت مشحون بالأمل والألم.
نشأ محمد رفعت في حي شعبي ومات فيه، وهو حي البغالة في السيدة زينب، وظهر كصوت متفرد في حقبة حافلة بالعظماء.. سعد زغلول وسيد درويش ومختار ومحمود سعيد.
أما اسم الشيخ كاملاً، فهو محمد رفعت محمود رفعت، وعرف باسم «قيثارة السماء»، وكان أعظم قارئ في عصره وهو المولود في التاسع من مايو عام ١٨٨٢م، بحي المغربلين وقد فقد بصره صغيراً وهو في الثاني من عمره، وحفظ القرآن وهو في سن الخامسة، والتحق بكُتّاب مسجد فاضل بدرب الجماميز.
ودرس علم القراءات والتفسير ثم المقامات الموسيقية علي يد شيوخ عصره وتولي القراءة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة عام ١٩١٨م وافتتح بث الإذاعة عام ١٩٣٤م، إلي أن استفتي شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز تسجيل وإذاعة القرآن، فأفتي له بجواز ذلك فافتتح الإذاعة بسورة الفتح، ولما طلبت منه إذاعة الـ B.B.C تسجيل أسطوانات استفتي الشيخ
المراغي فأجاز له ذلك، وكان الشيخ رقيقاً عطوفاً وبالأخص مع الأطفال والفقراء، وأصيب عام ١٩٤٣ بمرض في حنجرته قيل إنه السرطان وتوفي عام ١٩٥٠م.

شكرا خالد مرورك الكريم